The News Jadidouna

من الحي الصغير الى الجمهورية: “اوزوبيس” مدينة السعادة

قد تكون أشبه بالمدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون، أو بمدينة الفنون التي لطالما تمنى الفنانون الهروب اليها والعيش في أحضانها! قد تكون خيالاً أو ضرباً من المزاح، لكن الضّفة الأولى من النهر ليست كما الثانية. هذا النهر الذي فصل فيلينس عاصمة ليتوانيا عن جارتها أوزوبيس، ومعنى اسمها، الجانب الآخر من النهر، فأوزوبيس ليست فقط الجانب الآخر من النهر، بل هي الجانب الآخر من العالم، قلائل هم من يدرون بها!

حوالي 60 هكتاراً مساحتها، تبدو وكأنها حيّ من مدينة، لكن قصّة هذا الحي لا تشبه سواها، وأمّا سكانه فلا مثيل لجرأتهم. ففي 1 نيسان عام 1997 تم إعلان تأسيس جمهورية أوزوبيس المستقلّة عن ليتوانيا! في الواقع، استطاعت جمهورية أوزوبيس حلّ جميع مشاكلها الداخلية والخارجية بعد تحقيق استقلالها عن ليتوانيا، كما أنها وضعت بعض الشروط على السكان مثل أن يقوموا بنسيان ماضيهم وأحزانهم عندما يدخلون إلى البلد! هذه ليست كذبة أول نيسان رغم مصادفة التاريخ نفسه، ورغم عدم حيازتها على اعتراف دولي. لكن هذا لم يكن عائقاً امام جمهورية اوزوبيس على انشاء علمها الخاص ألا وهو، يد بداخلها خرم ما يعني أنها تضمن العيش الكريم لسكانها حتى وإن لم يمتلكوا المال حيث توفّر الجمهورية لمواطنها جميع وسائل العيش والرفاهية ليكونوا سعداء حتى وان لم يكن لديهم المال. حتى ان لون خلفية العلم تتغيّر حسب الفصول، ففي الشتاء لون العلم أزرق، في الصيف أصفر، في الربيع أخضر أما في الخريف فأحمر.في عيد الاستقلال الخامس، أي عام 2002، قرّر السكان انشاء تمثال لملاك يعزف على بوق كبير في وسط الساحة، وأصبح بذلك رمزاً للدولة.

هذا الحي هو صورة مصغرّة عن دولة كبرى، ففيه بالاضافة الى العلم، نشيد وطني، رئيس جمهورية ووزراء، وحتى فيه جيش مؤلّف من 11 عنصراً! أمّا ما ينظّم حياة سكّان أوزوبيس فهو دستور عصري خيالي، متميّز، ولكن غريب بعض الشيء وحتى فيه تناقضات ملفتة، ولكن لشدّة افتخار سكان البلد بدستورهم وقوانينهم الفريدة، يُمكن إيجاده معلقًا على حائطٍ في شارع «باوبيو» مكتوب في 23 لغة (منها العربية)، وفي أيلول 2018 بارك البابا فرنسيس الدستور خلال زيارته إلى فيلنيوس.

يتكوّن دستور أوزوبيس من 41 بندًا كتبه «روماس ليليكيس» و«توماس شبيتيس»، باختصار يضمن هذا الدستور حقوق السكان النفسية والمعنوية ويولي أهمية بالغة لحق الانسان بالحب والسعادة والحرية وحتى للكسل، كذلك يحمي هذا الدستور المواطن من ارتكاب الأخطاء ويشّجعه على التميّز وعلى الاهتمام بالحيوانات، على المشاركة وعدم الشعور بالخوف. هذا الدستور يدعو سكان اوزوبيس الى عدم الاستسلام، لكن بالمقابل عدم المدافعة أو الهزم!

هي مدينة السعادة اذاً، أو ربما مدينة الأحلام، وكم هم محظوظون سكّانها، الذين يبلغ عددهم 7000 شخصاً. واللافت أن من بينهم ألف فنان! وهنا تكمن العبرة في كل ما سبق، ففي الواقع هدف جمهوريّة اوزوبيس منذ البداية، المساعي الفنية التي باتت الشغل الشاغل للجمهورية؛ اذ ان رئيس جمهورية أوزوبيس “روماس ليليكيس” هو نفسه شاعر، وموسيقي، ومخرج أفلام. سابقاً، أقام العديد من الأشخاص البارزين في أوزوبيس مثل فليكس دزيرجينسكي الذي كان ثوري بلشفي سوفياتي والمؤسس للشرطة السرية. والشاعر البولندي كونستانتي غولتشينسكي الذي عاش في الحي ما بين عامي 1934 و1936، وأراتوس زوكاس عمدة مدينة فيلنيوس السابق وغيرهم… لذا، كان الحي من الأماكن الشائعة للفنانين منذ الحقبة السوفياتية، وحتى اليوم يقيم العديد من الفنانين الشباب في المباني المهجورة بالقرب من نهر فيلنيا.

جمال الطبيعة الخلّابة، وتميّز الهندسة في الشوارع، كثرة المنحوتات الفنيّة تبعث للناظر إليها بالاندهاش والرغبة في مشاهدة المزيد منها، ناهيك عن الرسومات اليدويّة المتناثرة على حائط من هنا وآخر من هناك، صوت خرير النهر الذي يعزف بطيّاره ألحان سماويّة، كلّها أحاسيس تنبعث من قلب هذا الحي الذي أصبح يعجّ بالسيّاح المحبين للفن بكل أشكاله. وهذا ما يؤمّن تبادل الثقافات والحضارات والفنون بين اوزوبيس وغيرها من الدول سواء في أوروبا أو خارجها، حتى باتت هذه الجمهوريّة حاضنة الفنون وعرّابتها. وبالفعل انتقل إليها الكثير من السكان للعيش فيها نظرًا لهدوئها وجمالها الذي ينعش النفس ويهذب الروح، خاصة بعدما أعلنت أوزوبيس أنها تريد سكان ومواطنين للعيش فيها بسبب حاجتها لعمال وموظفين لإدارة شؤونها الداخلية والخارجية أيضًا.

ويبقى الهدف الأسمى، وهو سعادة المواطنين ، اذ ان أهم ما اهتموا به هو تحقيق السعادة الكاملة ولذلك عرفت أوزوبيس بمدينة السعادة، فهل من دولة في العالم تطلب من قاطنيها ترك همومهم ومشاكلهم خارجاً، والدخول اليها بفرح وطمأنينة وسعادة تامة؟ ربّما لأنها ليست جمهوريّة عادية، هي جمهورية أسطوريّة مشبّعة بالفن والاحساس والرُّقيّ، وكل ما يتعلّق بالفن، يتّسم بالحب والحريّة والسعادة!

من اوزوبيس الى دير القمر اللبنانية، 4133 كم، مسافة بعيدة لكن فنون متقاربة. فلطالما اشتهرت هذه البلدة الشوفية بمعالمها الأثرية وعماراتها الجميلة وطبيعتها الخلّابة لدرجة انها استحقّت لقب درّة الجبل. إضافة إلى القصور والمنازل التراثية، تضمّ دير القمر أكثر من موقع أثري، مثل سراي الأمير يوسف الشهابي، وسراي الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي يحتضن اليوم متحف “ماري باز”، الأوّل من نوعه في الشرق الأوسط ويضمّ أكثر من سبعين تمثالًا لأبرز الشخصيات اللبنانية والعالمية صنعت جميعها من الشمع.
فأسوة بزميلتها اوزيبيس، تشكّل دير القمر بأحيائها التاريخية القديمة نموذجًا معماريًا فريدًا من نوعه مؤلّف من مجموعة أبنية شيّدت في الماضي ضمن أنسجة فنيّة منسجمة وبقيت مكتملة حتى اليوم. وهي تتميّز بأسواقها القديمة المتعددة والمتنوّعة كسوق النجّارين، وسوق السكافين، وسوق الحرير، وسوق الصاغة، سوق المنتوجات الحِرفية…
ليست فقط الفنون ما يجمع بين لبنان وأوزوبيس، واذا اعتبرنا أن المطبخ هو مجال من مجالات الفنون، واذا قلنا أن لبنان مشهور ب”أكلة” لا تطيب المائدة من دونها: التبولة! فكما لبنان مشهور بالتبولة ، كذلك أوزوبيس تتفرّد بأكلة وطنيّة وهي ” أوزهبررغر”، فلا بد من تذوّقها اذا مررتم بأوزوبيس يوماً.

بالإجمال، ليتوانيا ليست بعيدة عن ثقافات الدول العربيّة عموماً، ففي عام 2017، شاركت المملكة العربي السعودية بمهرجان “الأيام الثقافية العربية”، الذي عمل في تنظيمه معهد الدراسات الاستشراقية والعربية في ليتوانيا، وسفارة المملكة لدى مملكة الدنمارك وجمهورية ليتوانيا ومنظمة آنا ليندا لحوار الثقافات، وبمشاركة عدد من الدول العربية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية المعنية بالتبادل الثقافي والتعليمي. وتم التعريف تاريخ المملكة المعاصر وثقافتها والتاريخ الإسلامي بوجه عام، ومختصين من برنامج خادم الحرمين الشريفين لرعاية تراث المملكة الوطني وهيئة السياحة والتراث الوطني يشاركون في ندوة عن آثار المملكة وإرثها الثقافي ، وفرقة موسيقية للفلكلور السعودي، ومعرض صور…

أينما كان وكيفما كان، لا سحر أقوى من سحر الفنون بكلّ أنواعه وفنونه، بكل لغاته وأوجهه، بكل ثقافاته وشعوبه، فهو ما ميّز جمهوريّة ازوزبيس، جمّلها، لوّنها وأعطى الحياة لشعوبها، أمّن استمراريتهم وأدام سعادتهم وإيمانهم بأن الحياة جميلة، بمجرّد خلع ثوب التعاسة واليأس والتمتّع بها!

ريتا عبدو – موقع جديدنا الاخباري

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy